ينخر المجتمع الموريتاني سوس التمايز الفئوي ويعاني بعمق من مخاطر الشروخ الاجتماعية التي تعبث ببنيته. ومن أقسى الظواهر الاجتماعية التي تمنع انسجام المجتمع ووحدته الوطنية وأعتاها مشكلة العبودية والاسترقاق، التي هي ظاهرة قديمة ومتجددة في هذا المجتمع.
ليست العبودية مجرد تاريخ غابر عفا عليه الزمن ولا هي أيضا مرض حديث سهل التشخيص والمعالجة، فالعبودية ممارسة قديمة في هذا المجتمع شأنه شأن أغلب مجتمعات غرب أفريقيا حيث كانت تجارة الرقيق في أوج ازدهارها حتى وقت ليس بالبعيد.
ومع دخول الاستعمار الفرنسي للبلاد مع بداية القرن العشرين تغيرت المعطيات السوسيولوجية وبحلول سنوات الثلاثينات تشكلت عدة مدن وطنية وبنيت مدارس فرنسية كان السكان مقاطعين لها في البداية، فأصبحت تلك المدن مهربا لـ”العبيد” الذين يريدون العيش مستقلين عن الأسياد السابقين وبدأت قلة من أطفال فئة المستعبدين ترتاد المدارس الفرنسية، واستفاد العبيد من حرية نسبية في هذه المدن الجديدة فأصبحوا مستقلين عن المالكين السابقين.
إلا أن هذه الحرية النسبية لم ترفع كثيرا من شأن هذه الفئة ذات البشرة السوداء في الأغلب الأعم، ورغم أن بعض المستعبدين بدأوا بتعاطي بعض المهن إلا أنها ظلت مهنا يدوية لا تستطيع أن تفي بمطعمهم، فعملوا مزارعين وحراس منازل وعمال منازل إضافة إلى عدة حرف يدوية فظل الناس ينظرون لهم نظرة دونية: نظرة ازدراء واحتقار كما ظلوا يتعرضون للظلم والقهر.
العبودية ما بعد الاستعمار
ومع رحيل الاستعمار الفرنسي لم تتحسن أحوال هذه الفئة التي ظل العديد من أبنائها عبيدا يعملون دون أي أجر عند ساداتهم في البدو والأماكن النائية عن العاصمة، وواجه أول نظام يحكم البلاد بعد الاستقلال عدة مشاكل خارجية وداخلية جعلته ينظر إلى مشكل العبودية على أنه مشكل اجتماعي واقتصادي عميق يصعب حله بطريقة سياسية، ورغم تحريم الاستعباد قانونيا وتأكيد أول دستور للبلاد سنة 1961 على تساوي المواطنين في الحقوق والواجبات أمام القانون، فإن العبودية ظلت مستشرية في المناطق الداخلية، مع استمرار هروب العبيد من أسيادهم ونزوحهم نحو العاصمة وكبريات المدن.
فظهرت في هذه المدن وفي الأحياء الهامشية الفقيرة منها مجموعات من “العبيد السابقين” الهاربين من البادية عرفوا بالحراطين، عاش هؤلاء ولا زالوا أوضاعا مزرية للغاية وظروفا اقتصادية واجتماعية بالغة الحساسية وبالتوازي مع ذلك ظهرت نخبة صغيرة من شباب الحراطين المتعلمين وأحسوا بمعاناة هذه الفئة فكونوا منظمة سرية لتتحول بعد ذلك إلى “حركة الحر”.
بعد تولي العسكريين لحكم البلاد بعد 1978 حاولوا تحت ضغط المجموعة الدولية تجريم الرق فأصدروا قانونا هدفه القضاء على الرق سنة 1981 وهو ما لاقى معارضة قوية من الأوساط المحافظة ومشايخ القبائل والأعيان التقليديين و”الفقهاء المتمذهبين”.
بيد أن هذا القانون لم يطبق بشكل كامل ولم يصل صداه إلى المناطق الداخلية التي تعتبر حتى وقت قريب قلعة حصينة للاستعباد ومخلفاته، كما أن القانون أهمل الجوانب الاقتصادية المتعلقة بالحراطين كفئة فقيرة.
الثمانينات وظاهرة الحراطين
وبحلول منتصف الثمانينات كانت الوضعية المزرية للحراطين ظاهرة للعيان حيث يستحيل إخفاؤها خصوصا في العاصمة نواكشوط فأصبح التفاوت واضحا وصارخا بين سكان المناطق الراقية وسكان أحياء الصفيح ذوي الأغلبية المنحدرة من فئة الحراطين، فبدأت الحكومة تهتم بالمشكل الاجتماعي وسعت في البداية إلى حل سياسي، وفي سنة 1986 عين الرئيس معاوية ولد الطائع أول وزير “حرطاني” في تاريخ الدولة الموريتانية: مسعود ولد بلخير الذي سيصبح فيما بعد من أكبر السياسيين المنتمين إلى هذه الشريحة.
ومع بداية التسعينات وإصدار دستور “ديمقراطي” طفت المطالب الاجتماعية للعبيد السابقين على السطح وتكونت عديد المنظمات الحقوقية المدافعة عن قضايا العبيد والعبيد السابقين، ورغم أن السلطة آنذاك واجهت الحقوقيين بقمع شديد كما جابهتهم القوى المحافظة (القبلية والدينية) بمعارضة شرسة إلا أن هذه المنظمات قامت بجهود كبيرة في التعريف بهذا المشكل والمساهمة في تجريمه والقضاء عليه وعلى مخلفاته.
حزب من بقايا العبيد
وتشكل مع نهاية التسعينات وبداية الألفية الجديدة أول حزب سياسي يعمل علانية مكونا بالأساس من الأطر “الحرطانية” ويدافع عن قضايا عن هذه الفئة، وبعد 2005 وما سمي بالانتقال الديمقراطي، تبنت حكومة الرئيس سيدي ولد الشيخ عبد الله عدة إجراءات للحد من الاسترقاق ومن آثاره السلبية، فأصدر البرلمان الموريتاني سنة 2007 قانونا يجرم الرق بكل أشكاله، وهو القانون الذي لقي ترحيبا من المنظمات الحقوقية إبان صدوره غير أن كثيرين تساءلوا ولا زالوا يتساءلون عن جدية الحكومة الموريتانية في تطبيق هذا النوع من القوانين، بل طرحت عدة إشارات استفهام عن جدوى هذه القوانين في معالجة ظاهرة اجتماعية تم تكريسها في الواقع الاجتماعي على مدى قرون وأجيال.
المنظمات الحقوقية ومسألة الرق
في غضون ذلك برزت بقوة بعض المنظمات الحقوقية والسياسية التي تطرح بقوة أزمة العبودية على غرار “مبادرة الانبعاث الانعتاقية” والتي يرأسها الحقوقي بيرام ولد اعبيدي، وتظل فئة العبيد والعبيد السابقين تعاني من وطأة قدرها الذي يرحم ومن تباطؤ السلطات في إيجاد حل لمشكلهم ومن الاستغلال الاجتماعي الذين هم أكثر ضحاياه، فحسب الإحصائيات غير الرسمية يشكل الحراطين حوالي 40 بالمئة من السكان ويمثلون أكثر من ثلاثة أرباع الفقراء.
ولا تزال الحكومة الموريتانية – كما كانت الحكومات من قبلها- ترفض الاعتراف بشكل صريح بوجود العبودية مفضلة الحديث عن “مخلفاتها وآثارها”، وهو ما ترى فيه المنظمات الحقوقية رفضا للاعتراف بحقوق “الحراطين” وظلما موجها ضدهم، وتلقى الممارسات “الاسترقاقية” في موريتانيا مرجعية دينية لها في الكتب الفقهية وفي فتاوى بعض رجال الدين المؤثرين بقوة. ومؤخراً أعلن الحقوقي المدافع عن حقوق الحراطين والمنتمي لهذه الفئة بيرام ولد إعبيدي ترشحه للانتخابات الرئاسية المقبلة مبرزا سعيه إلى حل نهائي لهذا المشكل، فهل سيصل بيرام إلى القصر الرمادي (قصر الرئاسة).
مرشح رئاسي من العبيد
وفي حوار مع صحيفة العرب تحدث رئيس منظمة إيرا عن أوضاع العبيد و مشاكلهم ومدى تأثير اللوبيات الدينية والسلطوية على سير نضاله في طريق إنهاء الاسترقاق.
وأشار بيرام ولد إعبيدي إلى أن منظمة “مبادرة انبعاث الحركة الانعتاقية” (إيرا)، بعثت بالأساس من أجل مناهضة العبودية بكل أشكالها والنضال من أجل القضاء على مخلفاتها ونتائجها الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، والتصدي لعنصرية الدولة والمجتمع تلك العنصرية التي تستهدف أكثرية المواطنين الموريتانيين السود وكذلك بعض الشرائح المستضعفة من المجتمع العربي ـ البربري.
وفي استعراض للأهداف المرحلية لمنظمته قال بيرام نعمل حاليا على إلغاء الفقه المشاع والمعتمد دستوريا في مجال القضاء والإفتاء والتعليم ، والمنسوب زورا للإمام مالك بن أنس وللشريعة المحمدية، أعني هنا “مختصر خليل” و “مواهب الجليل في شرح مختصر خليل للحطاب المالكي”، و”حاشية الدسوقي على الشرح الكبير لمختصر خليل” وغيرها من الـتأويلات والشروح المنسوبة إلى إمام دار الهجرة.
حرق الكتب الدينية المحللة للرق
ويضيف ولد إعبيدي قائلا: “هذه الكتب تؤسس وتقنن وتشرع الشرائع الجاهلية العنصرية والاسترقاقية التي تقول بعدم المساواة بين الأعراق والأجناس البشرية وتجيز بيع البشر وميراث أموالهم والاعتداء عليهم جنسيا وجسديا. وهي الكتب التي حرقنا نسخا منها رمزيا سنة 2012 لكونها تقدس ما ليس مقدسا وتجيز فعل المنكرات وكل محرم في الأديان السماوية وفي القوانين الدولية حول حرمة أجساد البشر وأعراضهم” على حد تعبيره، ويستدرك بيرام أن تلك الجهود لم تكن كفيلة بتهشيم صخرة العبودية والاسترقاق.
وأشار بيرام إلى أن منظمته تعمل كذلك على تفكيك البنية الظالمة للمجتمع الموريتاني إضافة إلى إعادة تأسيس الدولة الموريتانية على مبادئ الحرية والمساواة والديمقراطية وحقوق الإنسان عبر الإطاحة بأنظمة “السخرة” في المجال الصناعي والمناجم والصيد التقليدي والزراعة، وفي مجال أسلاك الأمن والجيش.
وتواجه الجمعيات والمنظمات العاملة في مجال محاربة الرق عددا كبيرا من الصعاب لعل أهمها وفقا لرئيس منظمة إيرا معاداة جهاز الدولة والمجموعات الماسكة بالسلطة والمهيمنة على المال والدين والسياسة والجيش.
وقال بيرام ولد إعبيدي إن الدولة الموريتانية اعتقلت عددا كبيرا من مناضلي حركته وتم تعذيبهم في السجون وأدينوا في محاكمات صورية لمجرد كونهم مناهضين لا يلينون للاستعباد والعنصرية والاستغلال والتهميش. وعاد بيرام ليتحدث عن المتشددين في موريتانيا ودورهم في تكريس الاسترقاق قائلا: “ إن الدولة جندت ضدنا كتائبها الاستعبادية من العلماء والفقهاء والصحافيين كي يشهدوا ضدنا شهادة الزور في وسائل الإعلام الموريتانية المرئية والمسموعة والمكتوبة وفي المحاكم وفي المحافل الدولية”.
ورد رئيس″ إيرا” على المجهودات التي تقيمها الدولة الموريتانية ضد الاسترقاق ببعثها لعدد من القوانين والمؤسسات العاملة في هذا المجال قائلا: “لا يمكن للدولة أن تكون الحكم والخصم في هذا المجال إذ أن الماسكين بالسلطة هم الذين يمارسون الاسترقاق وهم من يحتلون القضاء وهم قادة الجيش والشرطة والدرك. فهم يرعون الممارسات الاستعبادية ويتسترون عليها ويؤسسون عليها نمط عيشهم ونظام قيمهم ومخزونهم الانتخابي وهيمنتهم السياسية”.
ويشير ولد إعبيدي إلى حادثة حرق “الكتب الفقهية” التي هزت المجتمع الموريتاني المحافظ وارتفعت على إثرها عدة أصوات تطالب بإعدام من قام بحرقها، وفي ذلك يقول “حرق كتب النخاسة الاستعبادية كانت ضربة قاضية وقوية ضد استكانة الحراطين وكسرا لهاجس الخوف والاستسلام لقدر وفكر الاستعباد.
استغلال الإخوان للعبيد
وفي معرض حديثه عن الأحزاب السياسية ومنها حزب تواصل الإخواني الذي دعا مرارا في خطاباته إلى مكافحة الرق قال بيرام “تلك دعوات غير جادة وتشتمّ منها رائحة النفاق السياسي وتصيد الأصوات، إذ أن السواد الأعظم من منتسبي هذا الحزب من رجالات الكتاتيب الذين لا علم لهم بالقانون الدولي وليست لهم ثقافة حقوقية وهم تلامذة متشددين ذوي طبيعة منغلقة في فهم الدين ولا يمكنهم بحال من الأحوال أن يقنعوا أحدا بجديتهم في مناهضة العبودية فهم آخر من يمارسها ويتستر على ممارستها ويبررون ذلك فقهيا، إذ كان موقف حزب تواصل من الاسترقاق خجولا جدا ومغالطة واضحة، و دسّت فيه كلمة تعبر بكل وضوح عن اعترافهم بشرعيته ويفهم من ذلك أنه بالنسبة إليهم هنالك رق له أساس ديني ويجيزونه ويتحفظون عليه بل ويمارسونه وآخر دون أساس ديني يرفضونه وهذه السفسطة نرفضها جملة وتفصيلا ونعتبرها دفاعا عن جرم ارتكب ويرتكب على هذه الأرض”، وأضاف إن زعماء الحزب الإخواني “تواصل” قد جاهروا مرارا في خطبهم ومسيراتهم بقتله واستباحة دمه.
المصدر : العرب اونلاين
لأحد 6 نيسان (أبريل) 2014 الساعة