ال مدير مهرجان ليالي المدح محمد عالي ولد بلال « إن مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مخرجا ومتنفسا لشريحة الحراطين في الماضي ووسيلة يمكن من خلالها مناقشة تاريخها ».
وأضاف ولد بلال خلال مقابلة خص بها « السراج » أن فن المدح هو الفن الغنائي الوحيد في موريتانيا الذي يمكن أن تجتمع عليه جميع أفراد الأسرة من أب وأم وأبناء.
وتحدث ولد بلال عن مشروع مهرجان ليالي المدح مؤكدا أن للفن الذي يقوم المهرجان بالبحث عنه والتأصيل له – خصوصية وخلفية تاريخية تعود إلى زمن ما أسماه بـ « الاستعباد ».
السراج: لمذا اخترتم فن المدح وما هي قصتكم معه؟
ولد بلال: اخترت أن نبدأ مشروعي المتعلق بالموروث الثقافي الفني بالمدح لسببين :
السبب لأول:
لما يمثله مدح النبي صلي الله عليه وسلم بالنسبة للموريتانيين جميعا وخاصة فئة الحراطين التي أنتمي إليها، أن فن المدح هو الفن الغنائي الوحيد في موريتانيا الذي يمكن أن تجتمع عليه جميع أفراد الأسرة من أب وأم وأبناء بدون أن يكون هنا بعض الإحراج وبما أنني أفكر في إنشاء مركز يعمل علي ذاكرة هذ الفن الشعبي الفلكلوري، أردت أن أبدأه بما يحبون الناس ويتفقون علي حبه.
السبب الثاني:
كنت دائما أفكر في مشروع يكون جامعا لهذا الوطن (جميع أطيافه، أعراقه،توجهاته)، لأن السياسة والعمل الحقوقي يفرقانه أكثر مما يقربانه نتيجة لقلة فهمنا لهذين العملين الجديدينعلي ثقافتنا (العمل السياسي والحقوقي)،ونتيجة لعملي ونشاطي المتنوع في الجمعيات الثقافية والمنظمات الاجتماعية، إضافةإلى أسفاري الكثيرة داخل الوطن وخارجه،كنت دائما أعود جازما بأن هذا الشعب المسالم لا يمكن أن يعيش إلا « كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا » (الحديث الشريف)، لكن تنقصنا الجرأة والصدق في التحدث فيما بيننا، وكانت نتيجة تفكيري دائما هو اللجوء إلى مدح رسول الله صلي الله عليه وسلم .
قصتي مع المدح: في النهاية هي قصة كل موريتاني يحب رسوله صلي الله عليه وسلم.
بدأت قصتي مع المدح وأنا مراهق عندما توفيت والدتي رحمها الله سنة 2002، بعدذلك انتقلت إلى السكن مع جدتي أناوإخوتي وجميعهم صغار (أخ وبنتان)، وكانت الجدة تناهز ما يزيد علي سبعين سنة رحمها الله،وكنا في « كزرة » (حي عشوائي) في كرفور قرب بقالة الله أكبر حاليا يملأها الفرح والحنان والصدق كل ذلك تعلمناه من الجدة « إمباركة إعلينه »، بطبيعة الحال كنت أنا وإخوتي الثلاثة نسكن مع الجدة بالإضافة إلي أبناء خالتي المتوفاة هي الأخرى قبل والدتنا نحن.
الجدة لم تكن مداحة،لكن كانت تحب المدح وتسافردائما ليلة الجمعة وليلة مولد النبوي تبحث عن السهرات المديحية مع صديقاتها في أنحاء متفرقة من العاصمة.نتيجة للحالة الاجتماعية والاقتصادية الضعيفة للأسرة،كانت الجدة في بعض الأحيان ألاحظ أنها تشعر بألم ويظهرعلى وجهها حزن، وهي التي علمتنا بوجهها البشوش وبكرمها بأن لا شيئ في الدنيا يستحق الانزعاج أو الحزن إذ دائما ما تقول لنا « الدني ماه شي » لكن الواقع المعيشي للأسرة هو الذي يتحكم في تربيتها وفي معيشتها، حتى أن جدتنا كانت دائما تخفي عنا المشاكل المادية التي تعاني منها من أجل أن نتابع دراستنا وان نجتهد في تعلمنا بدون أي مكدر لصفونا.
مربط الفرس: كنت دائما عندما أراها منزعجة أو يعكر شيء ما صفوهاأنادي بعض الصغار يأتوني ب صحن معدني كبير « تبصيل »أو قنينة بلاستيكية كبيرة « جركان » وأجلس بجانبها وأقول لها « أيواعطون نمدح كاع »،فتقول لي بسم الله، أقول بصوت مرتفع:
« ..أللا ينبي زين أوفالح………. زين الليلة اوزين البارح
ماريه زين اوكي تتبسم بالفم الفالح
مانوريدل ماه هي ألعادت تورد لمالح.. »
بعد ذلك تبتسم وتقول لي « ألا نعرف يولد منتي عن حسك شين »، فأرد عليها « يغير إظحك » كان هدفي الوحيد هو إضحاكها.
وكنت أكرر القضية مرات ومرات حتى توفيت الجدة رحمها الله.
السراج: كيف قررتم إطلاق مثل هذا المهرجان الثقافي وسط وجود العديد من المبادرات لإحياء فن المدح؟
ولد بلال: أنا فكرت في المشروع قبل أربع سنوات وبالتحديد في نهاية سنة 2010، وبدأت أكتب عن المدح وأبحث عن جميع ما دون أو كتب في هذا المجال سواء كان يتعلق بالمدح أو بالمداحة أو بعلاقة المدح بممارسيه، لكن لطبيعة المشروع خصوصيته وخلفيته التاريخية التي تعود إلى زمن الاستعباد، ولذلك السبب كنت دائما أتردد في الإعلان عن المشروع،لأنه وببساطة يتهرب الموريتانيون بطبيعتهم من الحديث عن كل شيء ذي علاقة بماضي شريحة « الحراطين » التي تمارس المدح،بعد مشاركتي في برنامج « دور الفن من أجل التغيير » في الأردن سنة 2014 ، وعرض مشروع مهرجان ليالي المدح أمام مايربو علي 50 شابا من مختلف البلدان العربية وكان من ضمن الشباب الحاضرين من موريتانيا اثنان بالإضافة لي،ناقشنا المشروع من جميع جوانبه والأهداف التي يريد أن يحقق في المستقبل البعيد، وبعد نقد الأساتذة و المكونين للفكرة وإبداء الشباب المشاركين وخاصة الموريتانيين لملاحظاتهم، عدت إلي أرض الوطن ومعي أحلام كبيرة وطاقة هائلة من أجل تطبيق تلك الأفكار التي تعززت بالنقاش والنقد، وقررت مع بعض الأصدقاء والزملاء الدخول في التجربة الأولي من المهرجان في خطوة اعتبرها الكثيرون نوعا من السريالية ومغازلة المجهول، بينما اعتبرناها محاولة لنفض الغبار عن لون روحي يؤول إلى النسيان شيئا فشيئا وتقديم ثقافة ضاربة في أعماق التاريخ والذود عن سيرة نبوية مجيدة وخصال محمدية شريفة.
السراج: ماذا يميز مهرجانكم ويجعل فكرته قابلة للاستمرارية؟
ولد بلال: ما يميز مهرجاننا هو أولا :
الموضوع ،مدح رسول الله صلي الله عليه وسلم ومحبته عند الموريتانيين
الجمهور، المتعطش للسماع مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم.
التنظيم
توثيق تاريخالمداحة
فريق المهرجان
هذه من بين أمور أخرى تجعل فكرتنا ومشروعنا قابلا للاستمرارية،زد على ذلك بأن هذا العمل الذي ننوي القيام به في مجال المدح وتوثيقه والتعريف به هو أول عمل ثقافي شامل في الساحة الثقافية الموريتانية يعمل علي ذاكرة هذا الفن.
السراج: ما هي علاقة المدح بالوحدة الوطنية وهو ما أشرتم إليه في خطابكم؟
ولد بلال: ما كنت أود أن أصل إليه في خطابي هو أن الفن والثقافة بصورة عامة يمكن أن يستخدما في مجال تعزيز الوحدة الوطنية،لكن فن المدح في موريتانيا له خصوصية أخرى متجذرة في روح المواطن الموريتاني وهي بالرغم من أن المدح الشعبي الموريتاني في أصله شكل من أشكال التعبير عن معاناة مكونة اجتماعية،اختزالا للغة الرفض والتعبير الراقي عن عدم الرضي وفي الوقت نفسه يشكل تضرعا لله من خلال الصلاة على نبيه صلي الله عليه وسلم كي تكون شفاعته خلاصامن ذالكالحيف،بعيدا عن أفكار الانتقام والعـنف.
ترى الجميع يتسابق لحجز مكانه في جلسة المدح سواء قديما في البادية والأرياف أو حديثا في المدينة بالمناسبات الدينية والاجتماعية وفي الصالات المغلقة بجميع مكونات هذا الشعب رغم إختلافهم وطبقيتهم إلا أنه في جلسات المدح ترى الجميع وهو علي قلب شخص واحد وفي تلك اللحظات يتناسى الكل مشاكله الاجتماعية والسياسية والحقوقية،ويكون همه الوحيد هو نيل الأجر وشفاعة نبيه يوم القيامة من خلال مدائح يتغني بها مداح هو في أصله وبين مجتمعه « امرابط مايزبي ».
السراج: هل هناك داعمون لمهرجانكم وما هو حجم الدعم؟
ولد بلال: حتى الآن الداعمون للمشروع مازالوا قلائل ونذكر منهم علي وجه السبيل وزارة الثقافة والصناعة التقليدية،هذه السنة الوزيرة هندو بنت عينينا خصتني بجلسة استماع تحضيرا للنسخة وأبدت استعدادها ومواكبتها لجميع فعاليات المهرجان وترجمت ذالك بورقة رسمية من الوزارة لدعم المهرجان، وفي النهاية حضرت افتتاح النسخة الثانية من المهرجان،لكن تسائل الكثيرون عن عدم إلقاء السيدة الوزيرة خطابا أو كلمة بمناسبة انطلاق المهرجان،وهذا مافسره آخرون كل حسب اجتهاده وموقفه من القضية.جمعيةالفرانكفونيون الموريتانيون واكبت المهرجان من نسخته الثانية، شركة الاتصالات شنقيتل بجهود من قنصل جمهورية السودان في موريتانيا تدخلت في الليلة الأخيرة.لكن الداعمين الأساسيين لمشروع مهرجان ليالي المدح إلى حد الساعة هم مجموعة من الشخصيات السياسية والحقوقية من محبي مدح رسول الله (ص) آمنوا بالفكرة من بدايتها وسايروها ونعمل علي إقناع آخرين من أجل الالتحاق بهم.
السراج: ما هي الرسالة التي تودون تقديمها من خلال المهرجان؟
ولد بلال: لدي مجموعة من الرسائل من أهمها :
أن المدح الشعبي موروث ثقافي له خصوصيته في موريتانيا ويجب علينا المحافظة عليه كموروث شعبي بطقوسه ضمن المنظومة الثقافية في البلد.
فن المدح يمكن أن يكون أداة من أجل السلم الاجتماعي بين مكونات الشعب.
إبراز قيم التسامح التي كانت تتميز بها هذه الشريحة من المجتمع.
السراج: هل صحيح أن فن المدح مرتبط بمكون واحد من مكونات المجتمع الموريتاني؟
ولد بلال: قبل الرد علي هذا السؤال سأطرح بعض الأسئلة مع أنه كان المطلوب مني هنا فقط هو الإجابة علي الأسئلة وليس العكس .
هل الصناعة التقليدية فن مرتبط بمكون واحد ؟
هل فن أزوان هو الآخر مرتبط بمكون واحد ؟
ولد بلال: للرد على سؤالكم،يجب أن نتطرق إلي معنى قضية الارتباط، ما المقصود بقضية الارتباط هنا هل يعني هذا أنه لا يوجد مكون آخر في موريتانيا يمارس المدح ويمتهنه فهذا ليس هو المقصود فكل الموريتانيين يحبون المدح ويمارسونه كل بالطريقة التي يختار وتناسبه، فـ « الزوايا » يمارسون المدح ويؤدونه بطريقتهم الخاصة و »إيكاون » هم الآخرون يمارسونه ويؤدونه بطريقتهم الخاصة، لكن المدح علي آلة لطبل أو المدح على طريقة « بنجه » هي خصوصية مكون اجتماعي واحد وهم « الحراطين »، هذا لايعني أنه لا يمكن أن نجد أشخاصا من مكونات أخرى تمارس نفس الفن وبنفس الطريقة.
السراج: هل تقبلون تلك النداءات التي تدعو إلى تطوير فن المدح؟
ولد بلال: إذا كان التطوير هنا مقصود به تطويع فن المدح حتىيكون شبيهالفن « إيكاون » ويتبع للمنظومة الموسيقية فيجد المداح نفسه محصورا لعدم تمكنه من « آزاي » لأداء مدحته التي تعلمها أو حفظها بروية في جلسة مدح تقليدية ليست مطالبة بسلم موسيقي،فهذا ليس تطويرا بمفهومي الخاص وهذا خطير جدا ومن الأمور التي نعمل علي الحيلولة دونها،فنحن نريد أن يظل المدح بشكله وثقافته.
وإذا كان المقصود بالتطوير هو نفض الغبار عن هذا الفن وتاريخه وثقافته من أجل جعله في شكل وقالب يمكن أن نستفيد منه في الحاضر ويمكننا تسويقه للآخر من أجل التعرف علي هذه الثقافة وعلى هذا التاريخ الفني الأصيل وفي الأخير يمكن أن نعمل على ألا يندثر ويتلاشي من أجل استفادة الأجيال المستقبلية منه فهذا هو ما نصبوا إليه ونرجو.
السراج: ما هو السر في تنظيم ودقة برمجة مهرجانكم؟ وكم الحضور الكثيف؟
ولد بلال: بالرغم من الإمكانيات المادية المتواضعة إن لم نقل المعدومة، الحمد الله وبشهادة الجميع كان من أبرز نقاط قوة المهرجان هو التنظيم و البرمجة والحضور الكثيف، هذا إن دل علي شيء فإنما يدل علي الإيمان القوي لفريق المهرجان بهذا الفن وثقافته وهنا أشير بأن هذه القوة التنظيمية تتجلي في تكوين فريق من العمل يزيد علي 33 شابا موريتانيا متطوعا من مختلف الانتماءات الثقافية والفكرية والإيديولوجية،منهم إعلاميون وناشطون في منظمات حقوقية، وجمعيات ثقافية و أندية و روابط قاعدية، ومدونون.
السراج: هل من كلمة أخيرة؟
ولد بلال: أود في الأخير أن نشكر جميع فريق مهرجان ليالي المدح علي المجهودات والعمل الراقي الذي قاموا به من أجل إنجاح نسختي المهرجان.
وفي النهاية أدعو وزارة الثقافة والصناعة التقليدية و جميع الشركاء الوطنيين والدوليين مشاركتنا ومواكبتنا من عمل مركز ترانيم للفنون الشعبية وهو الإطار القانوني الذي سيكون في المستقبل يعمل علي صيانة وتوثيق الفنون الشعبية الموريتانية بجميع تصنيفاتها.
Source : essirage.net